18 - 09 - 2024

مدينتي الفاضلة| سينما مصر

مدينتي الفاضلة| سينما مصر

ماذا تفعل إذا رقصت العصافير على خيوط الشروق في احتفالها الصباحي، فنهضت في فراشك وفركت عينيك، لكن شُفت نفسك مش انت!! لا شكلك ولا ملابسك، ولا غرفة نومك، ولا أشياءك، وغريب أمامك يناديك بغير اسمك!! تنتبه، وتتأكد أنك صاحي، مش في بيتك، غريبا حتى عن نفسك، وكأنك تائه ما بين السماء والأرض!! شبح ضال بملابس قبض الروح، تصطدم بجموع لا تعرفها!! مرعوب مما بعد الصحيان!! تصرخ باسمك وعنوان بيتك وأصحابك، ينعتونك بالجنون!! تستسلم تجنبا لقميص المجانين، لكي تبدأ صراع استعادة نفسك!! 

وهكذا خفتت الأنوار داخل معمل المواهب بالهناجر، وتسلل إلينا عرض مسرحية " سينما مصر".. أضاءت شاشة تعرض المشهد الماستر لفاتن حمامة في فيلم "الليلة الأخيرة"، استيقاظها على صدمة عودة وعيها بعد 20 سنة، في صباح يوم فرح عروس، يدًعون إنها ابنتها!! تفيق على واقع مرعب، أنها نامت نادية العروس، واستيقظت أم لعروس، وزوجة لزوج أختها فوزية!! وكل معارفها يؤكدون أنها أسيرة صدمة زواج وفراق ابنتها!!

 ولكنها تثق أنها "نادية"، الطموحة المتميزة وليست فوزية السلبية المنقادة!!

يسحبنا المشهد لنشارك كمتفرجين في رؤية وجمع أدلة وجود وهوية نادية، التي فقدت وعيها في غارة إسرائيلية على الاسكندرية ليلة فرحها هي على حبيبها هي، وعاشت شبابها أسيرة غياب الوعي.. هذا المشهد السينمائي العبقري لفاتن حمامة، افتتح به "خالد جلال" مُخرج النور ومبدع الفرح، مسرحية " سينما مصر".. يتكرر المشهد مرارا مع دخول كل ثنائي من ال67 ممثل أبطال العرض، دخولا كما لقدس الأقداس.. لتمهيد المتفرج لجريمة تغييب الوعي عمدا، والتفتيش عن المجرم الظاهر والمستتر في حياتنا، الموجود داخلنا وخارجنا.. المهم أن الضحية - الوطن- استيقظت، أما استعادة نفسها فهو رهن إصرارها هي أولا!!

 يقبض المخرج على روح كل فيلم مصري لمس وتر الوعي بمشهد واحد صريح.. ليعزف لنا مقطوعة من المشاهد الماستر لأهم الأفلام المصرية، عرضا مسرحيا تلهث وأنت تتابع براعة سرعة تغيير مشاهد، تبدو واقعية كالزلازل، تعتقلك خوفا، ثم تحررك سالما!!

 المسرحية هي عرض تخرج الدفعة الثانية تمثيل من ستوديو المواهب، لمركز الابداع.. قدموا عرضا هو نفير "نوبة صحيان" للحاكم وللمحكوم، للظالم والضحية.. فريق تمثيل ينعش الروح، تفوقت فيه نون النسوة، لكنهم معا أمتعونا بألبوم ذكرياتنا وجهزونا للدفاع عن هويتنا وعن حلمنا، كيف؟ فكًرونا!!  نبشوا صور حياتنا من أول الأبيض وأسود.. بيتنا زمان ومدرستنا، الأفراح في بيوت جدودنا هي الخياطة والطباخ واللمة، أمان الشارع بالليل، حوش المدرسة ورهبة الأستاذ وأمانة التعليم، أهل الحي حُراسنا، صفارة الغارة وصوت " طفوا النور".. مشاهد تؤرخ لتطور الشر من أنشل وأجري، لاغتصاب وعي الفرد وتغريبه داخل نفسه وداخل وطنه!! عن عمد، وعن جهل، وعن تغييب وعي!! وماذا فعلت بنا كمان " سينما مصر"، فكرتنا بانتصاراتنا على مر التاريخ، وبمصير عصابات وأنظمة عدوة نفسها، استهدفت هويتنا فنجونا نحن وسقطت هي في الفخ.. وها هي بين أنياب صانعيها!! يشربون مرار كؤوس سمومهم وغرور قوتهم، فيترنحون لأنهم بلا جذور!

ممكن نستيقظ خائفين، أو مُنهكين من غد طال ترقبه، نتلفت مش عارفين احنا مين وفين، لأن الغد يماطل ويساوم لتأجيل وصوله.. لكن سينما مصر ذكرتنا بحتمية وصوله، لملمت ومضات الوعي الفردي والجمعي للمصريين وأشعلت منه ضوء المسرح بالنهاية السعيدة، حيث البطل (الشعب) لا يموت.. كلنا "نادية برهان صادق " الثرية بنت الأصول التي من حُسن تربيتها يظنونها ضعيفة!!      

فرقة سينما مصر اعتقلتنا بمُنشط.. فكرت كل مصرية أننا أحفاد "ملكات" الفراعنة وليس العبيد.. وأن المصري يصبر ويبلع الزلط، لكن في غضبه يحرق المحصول!! والسينما هي كنز ودائع الشهود، طه حسين، نجيب محفوظ، ثروت عكاشة، يوسف السباعي، عبد الرحمن الشرقاوى، وحيد حامد واحسان، شاهين، أبو سيف، بركات، نيازي، عاطف سالم، فطين، محمود ذو الفقار، الطيب وخان.. كرًموا وحاكموا، الفلاحة فؤاده (شاديه)، والمتوحشة (سعاد حسني) والعمدة (صلاح منصور) واستاذ حمام (نجيب الريحاني)، سى السيد (يحي شاهين)، آمنة وهنادي (فاتن وزهرة)، (القاهرة 30).. (الشاويش عطيه) القصبجي، بداية ونهاية سناء جميل، بنت البلد زينات صدقي.. ونجمة إبراهيم نموذج الاجرام أيام كانت صرخة "محكمة" مدوية!

 العرض هو طرح ابداعي مختلف لا يعتمد على الخطابة، بل على تنشيط الوعي بتمثيل أجمل مشاهد قدمت الشخصية المصرية في السينما. 

 ونجحت الفرقة بامتياز مع مرتبة شرف نشر البهجة.. بدءا من ملكة النحل، المخرج المنفذ "علا فهمي" والواعدة " أسماء عبد الشافي" مصممة أزياء البطلة " نادية"، إلى غناء الممثلات أميرة ومنار وايمان، كل منكن أوركسترا صاخبة فتًحت الأزهار.." خالد جلال" سلام مربع. 

مقالات اخرى للكاتب

 مدينتي الفاضلة | محاكمة القرن.. دين شنوده إيه؟!